خطاب رئيس مجلس أُمناء المعهد العالمي للفكر الإسلامي

إسطنبول- 24 مارس/آذار 2019

أعزائي الأُمناء

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يشرفني أن أظل عضوًا في مجلس إدارة المعهد العالمي للفكر الإسلامي وأن أُنتخب رئيسًا لمجلس أُمنائه. وكما تعلمون، لدي إعجاب شديد بإسهامات المعهد، ولقد بقيت ملتزمًا بخدمة المعهد في السراء والضراء. وإنني أتطلع إلى العمل معكم ونحن نبدأ مرحلة جديدة من رسالتنا لخدمة الأمة من خلال تقديم رؤى تستند إلى تحليل نقدي للتراث الفكري الإسلامي.

بينما نتطلع إلى المستقبل، حريٌ بنا أن نعترف بميراث رُوّاد الفكر الذين سبقونا وتحلوا بالشجاعة والعزم على الاضطلاع بالمهمة العظيمة التي تمثلت في إنشاء مؤسسة عالمية تُعنى بدراسة الفكر الإسلامي المعاصر، ونشره. ومنهم روّاد رحلوا عنّا، أمثال د. إسماعيل الفاروقي، ود. طه العلواني، ود. جمال برزنجي (رحمة الله عليهم جميعًا)، ومنهم رواد مازالوا يعيشون بيننا، ولا نبالغ إذا دأبنا على الإشارة إلى إسهاماتهم العظيمة التي قدموها للأمة.

يمكننا القول أنه بفضل رؤيتهم التي أسهمت كثيرا في بزوغ المعهد العالمي للفكر الإسلامي كمنظمة معنية بالتفكير النقدي والحوار العقلاني، يتميز المعهد اليوم عن غيره من المؤسسات الفكرية الإسلامية، في رفضه للتصلب الفكري والأيديولوجيا والتعصب.

وقد أفضى ذلك إلى إصدارات قوية ورائدة عن مقاصد الشريعة، وعن التجديد الحضاري والفكر الإسلامي، وإحياء التعليم والنهوض به، والتحول الملائم والمدروس من نموذج “أسلمة المعرفة” إلى نموذج “تكامل المعرفة”.

وهنا يأتي تحول النموذج دليلًا على عزمنا على أن تلبي مؤسستنا احتياجات أزمنة متغيرة. ولكي نشهد تحولًا مناسبًا، علينا أن نتبنى ثقافة مستدامة للابتكار في التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وأن نؤمن بهذه الثقافة ونستحدثها، ليس فقط من أجل الوصول إلى شبابنا، ولكن أيضًا لنكون صادقين مع قضيتنا. فلا يمكننا أن نحبس مؤسستنا ثم نسير على رصيف الحداثة إذا ما أردنا أن نكون شركاء في خلق مستقبل مشرق للحضارة الإنسانية.

لابد لتكامل المعرفة أن يتجاوز حدود التخصصات الأكاديمية؛ وعلينا أن نضع أنفسنا على تخوم المعرفة في مجالات تؤثر في المجتمعات المسلمة وفي المجتمعات الإنسانية بوجه عام، مستعينين بتراثنا الإسلامي الثري، وبما أرساه مؤسسو المعهد العالمي للفكر الإسلامي. وثمة موضوعات ينبغي إضفاء الطابع المؤسسي عليها لتمثل برامج للدراسة في مؤسساتنا:

ا. الحكم الرشيد في المجتمعات المسلمة

ب. الاستثمار الأخلاقي والاستثمار المسؤول اجتماعيًّا

ج. الصراع والاستقرار والتنمية في المجتمعات المسلمة

د. المجتمعات المدنية الناشئة

ه. الجهات الفاعلة غير الحكومية في البيئات الهشة  (NSAFE)

و. النزوح والهجرة

استضاف المعهد العالمي للفكر الإسلامي على مدار سنوات عديدة، من خلال ذراعه التعليمي، معهد فيرفاكس، بعضًا من ألمع العقول من جميع أنحاء العالم في إطار برامج طلابية شتوية وصيفية، وذلك عبر شراكة مع أساتذة ومفكرين بارزين لتعزيز تعليم الطلاب وتطويره فيما يتعلق بدراسة القرآن والسُّنة والعلوم الإسلامية. فضلًا عن ذلك، يستضيف المعهد منذ عقد من الزمن الملتقى الصيفي للعلماء، الذي يُعد أحد أكبر المنتديات الأكاديمية التي تركز على الفكر الإسلامي وتوفر فرصة قيّمة للباحثين في هذا المجال لعرض أبحاثهم ومناقشتها. وأسهمت المدارس الصيفية والمدارس الشتوية التي نظمها المعهد في بُلدان عدة في التنمية الفكرية والأكاديمية لطلاب الدراسات العليا. علاوة على ذلك، يتعاون المعهد مع مركز السياسات ما بعد الاعتيادية ودراسات المستقبل لتعزيز الوعي بالمستقبل والتفكير المستقبلي من خلال تدريب الباحثين الشباب في المملكة المتحدة وتركيا والبوسنة وجنوب إفريقيا، وتمكينهم من التفكير في مستقبل بديل، واستكشافه، وفهم الطبيعة المعقدة للأزمنة المعاصرة واستكشافها، والانخراط النقدي في مشكلات المجتمعات المسلمة وقضاياها.

إننا نعيش اليوم أوقات شديدة الأهمية والتعقيد والتقلب، وهي أوقات تتطلب أشكالا جديدة من التفكير والعمل. وحتى يستمر المعهد في تقديم إسهامات فعالة، عليه أن يصلح ما ينتهجه من أساليب وممارسات. واسمحوا لي أن أوضح ذلك بإلقاء الضوء على المبادئ والأهداف الأساسية التالية:

1- علينا أن نعطي أولوية كبرى للحفاظ على الشفافية المالية في جميع معاملاتنا عبر استخدام أفضل الممارسات والبرامج المحاسبية.

2- علينا أن نعيد النظر في برامج الإصدارت والترجمة إعادة شاملة من أجل التصدي للتحديات التي تواجه الأمة اليوم، كما ينبغي علينا اجتناب ربط اسم المعهد، في جميع الأحوال، بأي محتوى يحتمل التأويل الخاطئ أو السلبي أو يكون متحيزًا في جوهره أو تحريضيًا أو تشهيريًا أو قد يُنظر إليه على أنه تشهير، تترتب عليه إجراءات قانونية ضد المعهد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن قوانين التشهير الحالية صارمة للغاية. بمعنى آخر، نحتاج إلى ضمان أعلى مستويات الجودة في إنتاج المحتوى الذي يليق باسم المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وهو علامة مميزة اجتهد المعهد في تأسيسها، ويجب حمايتها بكل غالٍ ونفيس.

3- علينا أن نُعزز أنشطة المعهد في جميع أنحاء العالم حتى يلتزم المعهد وجميع فروعه في مختلف بلدان العالم بمجموعة واحدة من السياسات والأهداف الأساسية. فإذا لم نتمكن من الحفاظ على أعلى مستوى من التميز في فروعنا حول العالم، حَريٌ بنا أن نستعد لإغلاق تلك المكاتب والفروع.

تضمنت الرؤية الأصلية للمعهد ترجمة كمٍ هائل من المعرفة النظرية الحيوية إلى إصلاح تعليمي واجتماعي عملي لخدمة المجتمع الإسلامي في شتى أنحاء المعمورة. إننا نشهد لحظة سارة؛ إِذْ خضع المعهد إلى إعادة الهيكلة المطلوبة، والآن نجده في وضع يسمح له بتحقيق رؤيته من خلال إطلاق مبادرة “الارتقاء بالتعليم في المجتمعات المسلمة”. وتحدد هذه المبادرة بحثها ضمن ما يسمى باسم “الفضاء الثالث”، بمعني أن التعليم لا يقتصر على مجرد اكتساب المعرفة والمهارات، بل ينبغي للتعليم أن يكون وسيلة لحياة هادفة شاملة. واستنادًا إلى هذا الإطار، يصبح التعليم وسيلةً للتحول والأمل في مستقبل أفضل للمجتمعات المسلمة وكذلك للإنسانية جمعاء.

تُرتكز مبادرة “الارتقاء بالتعليم في المجتمعات المسلمة” على خمس مجالات بحثية: علم أصول التدريس (البيداغوغيا)، والمناهج الدراسية، والحوكمة والقيادة، وسياسة التعليم وسياقه، والتقييم والتقويم. وكجهد مشترك، نأمل في إدماج قيم القرآن، مثل التعاطف والتسامح والموعظة الحسنة والإحساس بالمسؤولية المجتمعية،خالقي أهببللعقف ةاخسة في منهجية التدريس، وتلك قيم ضرورية لإنشاء مجتمعات سليمة.

ويبقى الإصلاح التعليمي ركيزة أساسية للإصلاح اللازم في المجتمعات المسلمة؛ فقد سعت أجيال إلى تحقيق هذا الإصلاح، وعلينا أن نستمر في استثمار مواردنا فيه. واقع الأمر أن هذا الإصلاح يعد محور الخطاب الفكري الذي ينادي به المعهد العالمي للفكر الإسلامي لأكثر من ثلاثة عقود مضت، عبر ما يُشار إليه الآن باسم نموذج “تكامل المعرفة.” لقد شكّل هذا النموذج الخطابَ الذي اتسمت به إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي وأنشطته الأكاديمية والفكرية، فهو يضرب بجذوره في نظرية المعرفة الإسلامية التي تعتمد على القرآن والسُّنة باعتبارهما المصادر الأساسية للمعرفة، المنهجية والتفسيرية، على التوالي، بالإضافة إلى المعرفة البشرية في جميع جوانبها وتجلياتها.

ولدينا الآن فرصة للمضي قدماً نحو تشكيل المعهد العالمي للفكر الإسلامي في ثوبه الجديد تشكيلًا فريدًا ومبتكرًا من خلال تبني مبادرة شاملة فريدة للارتقاء بالتعليم في المجتمعات المسلمة، مبادرة تستند إلى نموذج تكامل المعرفة باعتباره أساسها الفلسفي، مما يتيح لنا فرصة لكي نبني على إنجازاتنا وأدبياتنا بناءً جديدًا استراتيجيًا هادفًا يرسم ملامح مبادراتنا الحالية والمستقبلية. وباستخدام نموذج تكامل المعرفة إطارًا نظريًا لمبادرة “الارتقاء بالتعليم في المجتمعات المسلمة”، سنكون قادرين على استحداث خطاب في القيادة والحوكمة والسياسة العامة، ليضحى هذا الخطاب نظامًا بيئيًا للسياسة التعليمية، بالإضافة إلى البحوث المتطورة لاستحداث معارف وأفكار جديدة من شأنها إثراء المعرفة والفكر الإسلاميين. على سبيل المثال، في حين تُعد مقاصد الشريعة إحدى نماذج تكامل المعرفة، فإننا نشرع حاليًا في استخدام “القيم القرآنية العالمية” باعتبارها نموذجًا أخر لتكامل المعرفة. وسنواصل، بروح الأمانة الأكاديمية والنقاش الفكري، استكشاف نماذج أخرى من نماذج تكامل المعرفة عبر خطاب يتسم بالجدية والانفتاح على المستقبل.

ويتطلب تحقيق هذه الرؤية قيادةً حكيمة وعملًا جماعيًّا. لذا من الضروري، وخاصة في هذه الأوقات المعقدة وغير المستقرة، ومن أجل تحقيق هذه الرؤية تحقيقًا فعالًا مع الحفاظ على الأهداف الأساسية للمعهد، أن يجرى الآن إعادة هيكلة عمليات المعهد وأنشطته، بما في ذلك إعادة هيكلة المكاتب والفروع التابعة له، والمنتشرة في مواقع متعددة، بحيث لا تعمل كأنها جزر منعزلة ومبعثرة. وهنا يُعد الحفاظ على الروابط وتعزيز علاقات التواصل وضمان مشاركة الجميع في المشروعات الرئيسة مشاركة مباشرة وفعالة، أمرًا ضروريًا لضبط إيقاع المؤسسة برمتها، ولإشراك الجميع في تلك المشروعات والأنشطة. فذلك، بلا شك، سيُتيح لنا الظهور في صورة متماسكة وهيكل موحد، ويوفر جهودنا وطاقاتنا.

وأنا، بصفتي رئيسًا لمجلس الأمناء، ملتزمٌ بالعمل مع المجلس لتحقيق أهداف المعهد التي لا تخدم الأمة فحسب، بل الإنسانية جمعاء. ومثلما تهدف رسالة القرآن والسُّنة إلى أن تكون نعمة تتمتع بها البشرية جمعاء، مسلمين وغير مسلمين، فللعالم برمته أن يستفيد من المشروعات المستوحاة من رسالة المعهد؛ رسالة يمكن تعريفها على أنها تطهير للقلوب لتغفر وتتعاطف بصدق، رسالة تستعين بالعقول لتشكيل تفكير أخلاقي سليم، وبالأيدي لخدمة المجتمع المحلي والعالمي المتنوع الذي تتألف منه الإنسانية. ومع أن هذه المهمة تتطلب جهدًا دؤوبًا لا نهاية له، فإننا نأمل في الانتهاء من تحقيق الأهداف التالية على المستوى الهيكلي خلال العام الحالي: الشفافية، والالتزام المالي والقانوني، والأداء والمساءلة، وجودة النشر، وسرعة الاستجابة للمستجدات.

أنور إبراهيم

رئيس مجلس أمناء المعهد العالمي للفكر الإسلامي